#راية_الإصلاح ـ جديد المقالات
دعاة تجديد الدين
توفيق عمروني
منشور في العدد (34) من #مجلة_الإصلاحرابط المنشور على التلغرام: https://t.me/rayatalislah/4719
رابط نسخة بدف: https://t.me/rayatalislah/4722



إنَّ دعوة تجديد الدِّين عند الغربيِّين في القَرن الثَّامن عشر الميلادي كانَ لها أسبابها المعقولة ودوافعها المسوِّغة، وذلكَ للخُروج من سَطوة الكَنيسة المحرَّفة والانعتاق مِن قيود رجالاتها الَّذين مارسُوا كلَّ ألوان التَّجهيل وصدُّوا النَّاس عن كلِّ أنواع العِلم والمعرفَة وأسَاليب التَّحضُّر، وعانى عامَّة النَّاس منهم أشكال الهيمَنة والإذلال والاضطهاد، كلُّ ذلك تحتَ مسمَّى الدِّين؛ فقامت ثوراتهم وغيَّر النَّاس نظرتهم للدِّين ولم يعُد له وجود في حياتهم سوى بين جدران الكنائس وصومعَات الرُّهبان، أو طقوس وتمتَمات تلوكُها الألسُن على مأدبة عشاء أو وقت الخلود إلى النَّوم، وظهر في المجتَمع الغربي نظريَّة التَّطوُّر الشَّامل، فلم يستثنوا منها دينًا ولا غيرَه، وأخضعُوا كلَّ شيء للتَّطوير والتَّجديد، ولم يفرِّقوا بين ثابت ومتغَيِّر.
وبمثل هذا النَّظر تأثَّر طائفة من أبناء المسلمين وسلكت مسالك الفرق الحائدة عن نهج أهل السُّنَّة والجماعة من تقديم العقل على النَّقل؛ فخرجوا بنظريَّة التَّجديد أي تجديد الدِّين أو تجديد الخطاب الإسلامي أو تجديد الفِكر الإسلامي أو تجديد الفقه الإسلامي، ونحوها من المسمَّيات المستَوحاة مِن فكر سائد، وهو أنَّ النَّاس اليوم في دنياهم ميَّالون إلى كلِّ جديد، ومائلون عن كلِّ قديم؛ وراحوا يؤصِّلون ويروِّجون ويدعُون إلى هذا الفكر الأثيم، وساعدهم على ذيوع مذهبهم أنَّ كثيرا منهم مُرحَّبٌ بهم في وسائل الإعلام ويتبوَّؤن مناصبَ مرموقة بحُكم مُجاراتهم للواقع وسعيهم الحثيث للتَّوفيق بين مفاهيم الواقع ومفاهيم الشَّارع الحكيم، ما جعلهم محلَّ مدح واستحسان من أتباع الشَّهوات والأهواء من الحَدَاثيين والعلمَانيِّين واللِّيبراليِّين والتَّغريبيِّين.
وإنَّ مِن أفسَد الأقيسة على وجه الأرض أن يُقاس دين الإسلام على غيره منَ الأديان؛ والله تعالى يقول: ﴿إن الدين عند الله الإسلام﴾ فهو الدِّين المحفوظ بحفظ الله، المتميِّز بمَا ميَّزه اللهُ به من صِفات الكَمال والشُّمول والحُسن والصَّلاح والعَدل، إذ لم تعرف البشريَّة شريعةً كشريعة محمَّد ـ صلى الله عليه وسلم ـ؛ فهي أكمل شريعة نَزلت منَ السَّماء على الإطلاق وأجلُّها وأفضَلُها وأعلاها وأقومُها بمصالح العبَاد في المعَاش والمعَاد وأكمَلُها وأوفَقُها للعَقل والمصلَحة؛ ولا تصادُم بينَها وبينَ الفِطر السَّليمة، ولا تعارض بينَها وبين العقول السَّويَّة؛ فهي الشَّريعة الَّتي سلمَت من كلِّ ما اعترى غيرها منَ الشَّرائع؛ وجعل الله تعالى أحكامَها متنوِّعة منها الثابت الَّذي لا يلحقُه التَّغيُّر ولا يجوز فيه الاجتهاد، ومنها ما يمكنُ أن تتغيَّر الفتوى فيه بتغيُّر الزَّمان والمكان والعوائد والأحوال؛ وهذا دليل على مرونة الشريعة وأنَّها مُصلِحةٌ لكلِّ زمان ومكان، وليسَت بحاجة إلى تحريف نصوصها أو تكلُّف تأويل أحكامِها ليرغب فيها الرَّاغبون. فهي شريعة تحملُ جميع معاني البَقاء والقُوَّة والاستغنَاء.
إلاَّ أنَّ هؤلاء المُنهزمين لمَّا هالَهُم ما بلغَت إليه أُمَم الغَرب من التَّقدُّم في مجالات الحياة المادِّيَّة، ظنُّوا أنَّه لا طريقَ إلى نهضَة الأمَّة إلاَّ بسُلوك سبيل هذه الأمم؛ ثمَّ لمَّا وجدوا شيئًا من التَّعارض بين النُّصوص الشَّرعيَّة وبين تصرُّفات وسلُوكات هذا الواقع، تنادَوا باسم المصلحَة إلى إعادة النَّظر في مسلَّمات شرعيَّة مقرَّرة، ومفاهيم دينيَّة ثابتة ومحاولة تجديدها بما يساير روح العصر ـ على حدِّ تعبيرهم ـ، ويتَّفق مع النَّظريَّات البشريَّة الحديثة؛ وهذا ما أدَّى إلى ظهور أحكام ومفاهيم تُنسب إلى الإسلام وليسَت منه، إذ لم يُراعَ فيها نصوص شرعيَّة صحيحة صريحَة، ولا إجماعات لعلماء المسلمين ثابتة، ولا دلالات لغويَّة معتَمَدة.
ودُعاة تجديد الدِّين العَقلانيُّون يتَّكئون في توجُّهِهم وما يذهبون إليه على ما يعبِّرون عنه بالفَهم المقاصدي للنَّصِّ، والاجتهاد، والمصلحة، وقاعدة التَّخفيف ونحوها منَ المصطلحات الَّتي كانَ مُراد علماء الفقه وأصوله منها غيرَ مُراد هؤلاء منهَا؛ فطوَّح بهم هذا الفهم إلى أقوال غير سديدة، وأحكام غير سليمة؛ فوُجد منهُم مَن يدعُو إلى الاجتهاد في الأصُول والفُروع، وفي الثوابت والمتَغيِّرات ولو بحضرة النُّصوص، ومنهُم مَن يدعو إلى تَحرير الاجتهاد مِن كلِّ الضَّوابط والشُّروط، ويدعو إلى العَمل بالأقوال الشَّاذَّة المُنكَرة ولو كانَت أقوالا لمذاهب المبتدعة باسم قاعدة التَّيسير ورَفع المشقَّة؛ وإنَّ هذه التَّأصيلات الفاسدة وأخواتها تميِّعُ الشَّريعةَ وتُضعف الثِّقة بشمولية الإسلام وهيمنتِه، وتشيع ثقافة الانهزامية، وتزهِّد الأمَّة في علمائها، وأخطر الآفات أنَّها تُفقد نصوص الوحي هيبتَها وتهوِّن من شأنها؛ ولو استرسَل المرءُ في مثل هذه الأودية الرَّديَّة لذهب دينُه بالكلِّيَّة، وما بقي منه شيء.
وأمَّا التَّجديد المشروع هو ما يجيء بعد اندراس العلم والسُّنَّة، وظهور الجهل والبدعة؛ وهو الوارد في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لهَا دينَهَا» وقد دارت عباراتُ العلماء شُرَّاح الحَديث على أنَّ التَّجديد هو إحياء ما اندَرس منَ الدِّين، والعَمل على نشر العلم، وفضح البدع والمحدثات، والاجتهاد بتنزيل الأحكام الشَّرعيَّة على ما يطرأ من حوادث ونوازل؛ والَّذي ينوء بحمل هذا التَّجديد هُو العالم العامل الَّذي تمكَّن مِن أدوات الاجتهاد وآلاته.
وفي «مرقاة المفاتيح» لعلي القاري (1/321) «إنَّ المُراد بـ«مَن يُجدِّد» ليسَ شخصًا واحدًا، بل المُراد به جماعة يجدِّد كلُّ أحدٍ في بلَد في فنٍّ أو فنون منَ العلوم الشَّرعيَّة ما تيسَّر له منَ الأمور التَّقريريَّة أو التَّحريريَّة، ويكونُ سببًا لبقائه وعدم اندراسِه وانقضائِه إلى أن يأتيَ أمْرُ الله، ولا شكَّ أنَّ هذَا التَّجديد أمر إضافي؛ لأنَّ العلمَ كلَّ سنة في التَّنزُّل، كما أنَّ الجهل كلَّ عام في التَّرقِّي، وإنَّما يحصُل ترقِّي عُلماء زماننا بسبَب تنزُّل العلم في أواننا، وإلاَّ فلا مُناسَبة بينَ المتقدِّمين والمتأخِّرين علمًا وعملاً وحلمًا وفضلاً وتحقيقًا وتدقيقًا لما يقتَضي البُعد عن زمنِه ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ، كالبُعد عن محلِّ النُّور ويُوجب كثرةَ الظُّلمة وقلَّة الظُّهور، ويدلُّ عليه ما في البُخاري عن أنس مرفوعًا: «لا يأتِي على أمَّتي زمَانٌ إلاَّ الَّذي بعدَه شَرٌّ منْهُ»».
فالتَّجديد ليس بإحداثِ أحكام جديدَة أو اختراع أصولٍ لم تكُن معهودة أو ابتكار قواعد غير معروفة، وإنَّما هو إعادة الإسلام إلى حاله الأولى الَّتي كان عليها في أوَّل أمره، ونفي ما عَلِق به ممَّا ليسَ منه كانتحالات المبطلين، وتأويلات الجاهلين، وتحريفات الغَالين؛ ومنه يدرك القارئ جرأة صاحب كتاب «تجديد أصول الفقه الإسلامي» الَّذي دعا فيه إلى الثَّورة وإعادة النَّظر فيمَا أطبقَت عليه الأمَّة وتقرَّر أنَّه من موارد الفقه ومصادره، فممَّا قاله: «... ولكن تتعقَّد علينَا المسألةُ بكَون علم الأصولِ التَّقليدي الَّذي نلتَمس فيه الهدايةَ لم يعُد مناسبًا للوفَاء بحاجَاتنا المعاصرة»؛ ولو أنَّه دعا إلى تنقية أصول الفقه ممَّا علق به من علم الكلام الَّذي لا طائل تحتَه ولا فائدةَ عمليَّة منه لكان حقيقًا أن يسمَّى مجدِّدًا، لكنَّه ـ وللأسف الشَّديد ـ رفع رايةَ دعوة لا يمكنُ وصفُها إلاَّ أنَّها هدم لدين الإسلام ونسفٌ لأصوله وأحكامه باسم تَجديدِه؛ ولهذا جاءت فتاويه خارجةً عن المعهود عند أهل العلم، ومخالفةً للنُّصوصِ القطعية الصريحة، كقوله بجواز ارتداد المسلم عن دينه، وتجويزه زواج المسلمة من الكتابي، ودعوته لاجتماع الأديان السَّماويَّة في دين واحد يُسمَّى: جبهة أهل الكتاب؛ وغيرها من البدع والضَّلالات الَّتي لا تستند إلى دليل؛ بل تستند إلى أصوله الجديدة كبدعة القياس الواسع، والاستصحاب الواسع؛ وهذا أنموذج من دعاة التَّجديد الدِّيني ـ وهُم كُثر في عالمنا اليوم ـ يتفاوتون في الانحراف والمروق من أحكام الإسلام؛ وإنَّ من أعظم أسباب انحراف هذا الرَّجل وأمثاله من التَّجديديِّين العقلانيِّين أنَّهم لم يُراعوا فهمَ السَّلف وفقهَهم ولم يرفعوا به رأسًا، وهوَّنوا من شأن العلماء السَّائرين على نهج السَّلف ووصفُوهم بالجمود والرَّجعيَّة وأنَّهم نصوصيَّة؛ يقول الشَّاطبي في «الموافقات» (3/71 ـ 77) «وكثيرًا ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة، يحمِّلونهما مذاهبهم، ويُغَبِّرون بمشتبهاتهما في وجوه العامَّة، ويظنون أنهم على شيء...؛ فلهذا كلِّه يجب على كلِّ ناظر في الدَّليل الشَّرعي مُراعاة ما فَهم منه الأوَّلُون، وما كانوا عليه في العَمل به؛ فهو أحرى بالصَّواب وأَقْوَمُ في العِلم والعَمل».


